ينشأ الإنسان -غالباً- في وسط بيئة صغيرة، تمثل له جواز سفر إلى البيئة الكبيرة الشاسعة في المستقبل، وقد ثبت لعلماء النفس أثر البيئة في بناء شخصية الفرد، وأكدوا ذلك حين درسوا التوائم المتماثلة في بحوث كثيرة، فظهر لهم: أن التوأم المتماثلان يتساويان من حيث العوامل الوراثية، فإذا تربّيا في بيئة واحدة، فإن سمات الشخصية لديهما تكون متقاربة إلى حدٍّ كبير، أما إذا تربّيا في بيئتين مختلفتين، فإن تأثير البيئتين يتضح في إختلاف سمات شخصية كل منهما -كما يقول الدكتور حامد زهران.
وهذا التأكيد البحثي يدلُّ دلالة واضحة على أثر التعامل الأسري في تشكيل شخصية الفرد، ومن هذا التشكيل البناء الديني والعلمي والثقافي والإجتماعي والأدبي ونحو ذلك، ولو تصوّرنا أسرة أديبة، ذوّاقة، تهتم بالأناقة، ولها مجالس علمية أو شعرية، تثقف أبناءها، وتضع بين أيديهم مكتبة عامرة بألوان النتاج الإنساني الرفيع، وتمتلك القدرة على التحفيز والتشجيع، وتراقب دافعيتهم بإستمرار، فإننا نتوقّع أن يتبرعم في هذه الشجرة الظليلة عدد من ورود الأدب، وتتفتح فيها مواهبهم الكامنة، إذا وجدت؟ وفي المقابل لن تكون كل هذه العوامل مؤثرة إذا لم تتوافر الموهبة في أولئك الأبناء.
إن النشأة تمثل للإنسان الحقل الذي تنمو فيه جميع قدراته بلا إستثناء، وفي الطفولة خصوصاً، يمثل اللعب أساساً لانطلاقة الإنسان في داخل هذا المخلوق المتطلع، واللعب كما يقولون: دافع إجتماعي، وهو قديم قِدم الحضارة نفسها، إنه ينتشر في كل مناحي الحياة، فالشعر نما في اللعب وإنتعش من خلاله.
الأدب جمال تعبيري، ونمو الإحساس لدى الإنسان بهذا الجمال يبدأ منذ تكوين جهازه العصبي في شكل جنين، فالحاسة الجمالية تنمو لدى الإنسان.. مع ولادته وخروجه إلى الطبيعة والمجتمع.
كما يؤكد جمال سيرندا: وكل إحساس يحتاج إلى تربية وإهتمام ليستمر مستقيماً سويّاً، ومن أهم الأحاسيس الإنسانية الإحساس بالجمال بشتى أنماطه، وتربية الإحساس بالجمال هي التي ترمي إلى إنماء عاطفة الجمال الكامنة في النفس عن طريقين: تقدير الجمال، وإنتاج الجمال -أي الإبتكار والإبداع- عند توافر الاستعداد، حيث يبدو تناقل الخبرة بالجماليات التعبيرية والحسية نوعاً من السلوك الذي يتطبّع به الفرد عفوياً، داخل بوتقة البيئة التي تكتنفها من جميع نواحيه، وأزعم أن ذلك يمكن أن ينمو أو يخبو بحسب إعطائه الأهمية في الأسرة، فإذا تبنّت تنمية إحساسات أولادها الجمالية، بشتى الطرق، ومن أهمها: توفير الجماليات من حولهم، داخل المنزل وفي النزهات والسفر إلى مخابئ الجمال، وكنوز الإبهار الطبيعي.
وتعدّ الأسرة المحضن الأول الذي يتشكّل فيه الطفل، الذي قد يغدو مبدعاً في الهندسة، أو في التخطيط، أو أن يكون خطيباً أو أديباً، أو متذوقاً للأدب، أو أي شأن آخر، وفيها تتبرعم قريحته أو تموت، تنمو طبيعته التي خلق بها، أو تذبل، والأبوان أو من يقوم مقامهما هما اللذان يمسكان بزمام المستقبل منذ البدء،.. يقول ابن المقفع -ت 142هـ: وللعقول سجيّاتٌ وغرائزُ بها تقبل الأدب، وبالأدب تنمّى العقولُ وتزكو.. فكما أن الحبة المدفونة في الأرض لا تقدّر أن تخلع يبسها وتظهر قوتها وتطلع فوق الأرض بزهرتها وريعها ونضرتها ونمائها إلا بمعونة الماء الذي يغورُ إليها في مستودعها فيذهب عنها أذى اليبس والموت ويحدث لها بإذن الله القوة والحياة، فكذلك سليقةُ العقل مكنونةٌ في مغرزها من القلب: لا قوة لها ولا حياة بها ولا منفعة عندها حتى يعتملها الأدبُ الذي هو ثمارها وحياتها ولقاحها.
التربية مسؤولية إبداعية، وليست مسؤولية تقليدية، وبحسب إختيارنا إحداهما ستكون النتيجة غالباً.
بقلم: د. خالد بن سعود الحليبي.
المصدر: مركز واعي للإستشارات الإجتماعية.